كانت قطرات المطر تنهمر بشدة على الزجاج الامامي للسيارة حتى ان الرؤية عنده
أصبحت معدومة ولم يعد بإمكانه القيادة...ترجل من السيارة وهو يرفع معطفه الاسود
فوق رأسه ليحتمي به من شدة الامطار التي تهطل عليه...مسح زجاج السيارة ثم دلف
للسيارة مرة أخرى وأدار الكاسيت وأخذ يدندن مع الست أم كلثوم ( دليلي إحتار)
أنطلق بالسيارة وهو يراقب الطريق بحرص خاصة في هذا الوقت من الليل...كانت
الشوارع قد خلت من المارة إلا عدد قليل من السيارات...كان قد عاد لتوه من زيارته
لأحد الاصدقاء وسرقه الوقت كما يسرق العديد من الاشياء... إلتفت فجأة على صوت
إرتطام بجانب السيارة الأيمن...أوقف المحرك وترجل واجماً من السيارة...كانت
المفاجأة سيدة في بداية العقد الثالث وهي ترتدي فستان أبيض وقد تبلل جسدها
وشعرها بفعل الامطار...ساعدها في النهوض وإصطحبها بالداخل..غطاها بمعطفه
هو : حصل لك حاجة ؟ أنا أسف ما أعرفش خبطتك إزاي؟
هي (تبتسم ) :لالا لا ما فيش حاجة أنا كويسة
هو ( بخوف) : ممكن نروح أي مستشفي قريبة نطمن عليك.
هي : صدقني انا بخير
هو يمد يده مصافحاً : إسمي علي عبد الرحمن
هي : إسمي نرمين
علي : تحبي أوصلك فين ؟
نرمين : زي ما أنت ماشي وبعدين حندخل يمين.
ادار علي محرك السيارة وعينيه في اتجاه نرمين...كانت فاتنة بحق وقد كست البراءة
معالم وجهها...ولكن العديد من التساؤلات كانت تدور برأس علي...ما الذي أتى بها
إلى هذا المكان المهجور وبهذه الملابس التي لا تناسب هذا الجو او الوقت من العام
؟..لا بد أن ورائها سر ولكن لا يهم ...هي لم تصاب بسوء وهنا اعاد التفكير كيف
هذا وقد سمع صوت ارتطامها بالسيارة...يفيق على صوتها.
نرمين : هايل انت بتحب أم كلثوم ؟
علي وهو يبتسم : وفيه حد ما يحبش الست؟
نرمين وهي تضحك بأنوثة طاغية : وكمان دليلي احتار الله عليك
يمد علي يده ليرفع صوت الكاسيت ولكن يد أخرى تمسك بيده هي يد نرمين...يحاول
أن يفلت يده ولكنها تطبق عليها بعنف...يضغط على الفرامل ويتوقف جانبا.
علي وقد ارتجفت اوصاله: أسف بس أنا نسيت أسألك رايحة فين بالضبط؟
نرمين وهي ترمقه بإبتسامة ساحرة : إنت مستعجل؟
علي : لا أبدا أنا قلت أحسن تتأخري.
نرمين وقد إمتدت يدها لتمررها على شعره وقد أذهلته المفاجأة : أنا عمري ما أتأخر
عنك.
علي وقد أعيته كلماتها...لم تكن تبدو كفتاة ليل ..كل ملامحها كانت تنطق بالبراءة
حتي إنه يكاد يذوب بين ذراعيها لولا نشأته الدينية وخوفه من الله : معلهش أنا
إتأخرت ولازم أمشي.
نرمين : مستعجل ليه يا علي الليلة دي انا ملكك لوحدك.
كانت الكلمات الاخيرة لها وقع قوي حتي انه ادار السيارة وانطلق غير عابئا بها
وهي ترمقه بنظرات غامضة غاضبة
نرمين : الشارع الجاي يمين
يفيق علي : بس الشارع الجاي ده مقابر
نرمين دون ان تلتفت اليه : عارفة البيت اللي هناك ده فيه اختي ...اغير هدومي واجيب لك البالطو بتاعك علشان ما تبردش وشكراً.
علي بعصبية : أوكي منتظرك
تذهب مبتعدة ويراقبها وهي تدخل أحد البنايات ثم تختفي...تمر الدقائق طويلة كأنها
ساعات...لا تظهر نرمين...هل يتركها ويمضي ؟ وكيف تعود هي لو لم تكن اختها
بالمنزل ؟ترجل من سيارته...مضى في اتجاه المبني القديم...كان السير بين المقابر في
هذا الوقت كمن يسير بين ألغام...أصوات غريبة لم يدر اذا كان مصدرها هو الرياح
أم هو نداء الموتى...كان مجرد التفكير سيقتله...يصل الى احد المباني القديمة
التي دخلت به نرمين..يتقدم من باب خشبي متهالك يتحرك بفعل الهواء محدثا صرير
مخيف...يشعل قداحته ليتحسس طريقه في الظلام الدامس..تتسمر قدماه وهو ينظر
للامام...لم يكن المبني القديم سوي بوابة دخول الى احدي المدافن الكاثوليكية وقد
انتشرت شواهد القبور...يحاول الرجوع للخلف ولكنه يسقط وقد انطفأت قداحته..
يصرخ عاليا ويشعل قداحته مرة اخري وقد ارتطمت يديه بشيء يعرفه جيدا.. انه معطفه
الأسود ...يزيحه وقد غطى تحته بعض الكلمات ( هنا ترقد نرمين نصيف عروس
السماء ) وفوق الكلمات تتصدر الشاهد الرخامي صورة نرمين وقد لمعت عيناها
بإبتسامة غامضة...تنطلق صرخة عالية تشق سكون المقابر.
االمكان : مستشفى الامراض العقلية...القاهرة )
عنبر 12....الحالات الخطرة
أسم المريض : علي عبد الرحمن[/size