ظهر حديثاً في المجتمعات العربية، وبدأ الحديث فيه تحديداً منذ سنتين.. يرى فيه البعض زواجاً مخالفاً للقيم الدينية، والبعض الأخر يراه خروجاً عن الأعراف والتقاليد، بينما بتوصيف دقيق له، فإنه زواج خارج نطاق القانون، لأن القانون لا يعتد به لكونه غير مسجل بوثيقة رسمية على حسب الأصول القانونية، أو قد يكون هنالك عَقْد زواج بحسب مفهوم الرضائية في العقود، لكنه غير مُوَثَّق بوثيقة رسمية، سواء أكان مكتوبًا أم غير مكتوب. ومن هنا يكمن خطر هذا الزواج، حيث أنه ترتب نتائجَ كارثيةً على الزوجين، والمرأة والأطفال بشكل خاص، فلا حقوق مدنية ولا اجتماعية للمرأة أو الطفل، لأن القانون يعتبر عقد الزواج العرفي باطل، بالتالي كل ما ينتج عنه فهو باطل، سواء أطفال أو التزامات مادية أو معنوية، مما يعني أن لا نفقة، ولا اعتداد بنسب الطفل، وضياع حق الزوجة أو الطفل في الميراث، فلا تُسْمَع الدعوى بدون وثيقة، وكذلك حقها في النفقة على الزوج إذا هجرها، وفي حال وقع الطلاق إذا ظلمها أو لم تستطع التعايش معه، وفي زواجها من غيره إذا لم يطلقها، وفي غير ذلك من الحقوق التي تختلف النظُم في وسائل إثباتها وسماع الدعوى من أجلها.
فالقانون مثل العرف والعادة والتقليد، لاي قف أبداً في صف المرأة ولا يضع أدنى اعتبار لمشاعرها وخاصة في مثل هذه الحالات التي تكون فيها المرأة هي المتضرر الأكبر في هذا الزواج، لأن الأهل والمجتمع سينظرون للمرأة نظرة الواقعة بالخطيئة، ولا يستبعد أن يكون الكشف عن الزواج العرفي دافعاً لارتكاب جريمة شرف التي لم يزل البعض في مجتمعنا يقوم بها، أو لديه استعداد لذلك.
فالزواج العرفي هو المسكوت عنه في المجتمعات العربية، ولذلك يجب التنبيه إليه، لأنه بدأ يشكل ظاهرة بدأت تتنامى في داخل المجتمع الفلسطيني، وخاصة في أوساط الطلبة الجامعيين، وفي ظل حالة من الفلتان الأمني والسياسي والفوضى، وتردي الحالة الاقتصادية، وانتشار الجهل، وارتفاع سن الزواج، وبعض العادات الاجتماعية السلبية كتعنت الأهل في الموافقة على زواج الشاب أو الفتاة من الشريك الذي اختاره، وغلاء المهور، والذي يصاحب حالة انهيار اقتصادي وبطالة مستشرية بين الشباب، وكذلك حالات فشل الواج بسبب اخلاف الطوائف أو الأديان. جميعها تدعو لأن يلجأ كثيرٌ من الناس إلى الزواج العُرْفِي.
وهو من ناحية دينية كما أشرت يقول عنه الشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر:بأنه يُطْلَقُ الزواج العُرْفي على عقد الزواج الذي لم يُوثَّق بوثيقة رسمية، وهو نوعان: نوع يكون مستوفيًا للأركان والشروط، ونوعٌ لا يكون مُسْتوفيًا لذلك.
والأول عقدٌ صحيح شرعًا يَحلُّ به التمتُّع وتَتَقَرَّر الحقوق للطرفين وللذُّرية الناتجة منهما، وكذلك التوارث، وكان هذا النظام هو السائد قبل أن تُوجد الأنظمة الحديثة التي توجِب توثيق هذه العقود. أما النوع الثاني من الزواج العُرْفي فله صورتان: صورة يُكْتَفَى فيها بتراضي الطرفين على الزواج دون أن يَعْلَمَ بذلك أحدٌ من شهود أو غيرهم، وصورة يكون العقد فيها لمدة معيَّنة كشهر أو سنة وهو ما يسمى (زواج المتعة)، وهما باطلان باتفاق مذاهب أهل السنة، بينما يحكم أصحاب المذهب الشيعي الإسلامي بصحة الصورة الثانية، ويذكر أن الصورة الثانية من النوع الثاني وهو زواج المتعة إنتشر في العراق مؤخراً بعد سقوط النظام العراقي وإنتشار الفوضى، رغم ان دولاً شيعية المذهب مثل إيران تبحث جدياً حظره بسبب إنتشار الامراض الجنسية بسببه.
وإذا قلنا إن النوع الأول صحيح شرعًا تحلُّ به المعاشرة الجنسية، لكنْ له أضرار، وتترتب عليه أمور مُحَرَّمة منها: أن فيه مخالفة لأمر ولي الأمر، وأن المرأة التي لها معاش ستحتفظ بمعاشها؛ لأنها في الرسميات غير متزوجة، لكنها بالفعل متزوجة، وهنا تكون قد استولت على ما ليس بحقها عند الله؛ لأن نفقتها أصبحت واجبة على زوجها، فهذا لا يصح ويعتبر أكل للأموال بالباطل وهو مَنْهِيٌّ عنه . كما أن عدم توثيقه يُعَرِّض حقها للضياع كالميراث الذي لا تُسمع الدعوى به بدون وثيقة، وكذلك يَضِيعُ حَقُّها في الطلاق إذا أُضيرَت، ولا يصح أن تتزوج بغيره ما لم يُطَلِّقْهِا، وربما يتمسَّك بها ولا يُطَلقها .
فالزواج العرفي شكل من أشكال العلاقات التي باتت تنتشر ويكثر الحديث عنها بين الشباب في المجتمعات العربية، خصوصاً بين طلاب الجامعات وطالباتها، فقد صرنا نرى ونشاهد ونسمع حالات عديدة أبطالها فتيات من مختلف الأعمار، بدأن يجرين وراء تلك الظاهرة على أمل منهن أن تتحول أوراق هذا الزواج إلى وثائق رسمية مسجلة تدخلهن إلى عالم الزواج وتكوين الأسرة. والزواج العرفي جديد على المجتمعات العربية، وخاصة مجتمعات بلاد الشام (السوري، الأردني، الفلسطيني، اللبناني) حيث أن انتشاره بين فئة الشباب في السنوات الأخيرة هو الذي جعل منه ظاهرة تحتاج الى علاج وتدخّل من أصحاب الاختصاص، فهو لا يقتصر على فلسطين والأردن وسوريا ولبنان فحسب بل انه برز في عدة مجتمعات عربية أخرى كمصر ليبيا البحرين والمغرب العربي وغيرها، وفي بلدان أخرى ظهرت صور متعددة له، كما زواج المتعة في العراق، والزواج السياحي في اليمن، وزواج المسيار في السعودية.
ورغم عدم وجود إحصائيات رسمية ترصد حجم ظاهرة الزواج العرفي في دولنا العربية إلا أن المختصين يرون انه مقابل كل عدة آلاف من عقود الزواج النظامي التي تعقد في المحاكم الشرعية يتم عدد قليل من هذه العقود خارج نطاق المحاكم. في مقابل نسبة قليلة جداً من العقود تتم أولاً بعقد عرفي ثم يتم تثبيتها في المحاكم كعقود صحيحة، إلا أن هذا لا يعني أن الحالة منعدمة، أو غير موجودة، فحديث الشارع اليومي، وبعض جرائم الشرف التي تمت تحت غطاء العرف والعادة، أو تقاليد العشيرة، أوالفلتان الأمني، والفوضى العارمة التي سببها الاحتلال في فلسطين والعراق، تشير لبدء ظهور الحالة وتفشيها مما يعني أن ناقوس الخطر بدأ يدق، وأنه يجب الالتفات إلى الحالة قبل أن تتحول لعادة اجتماعية يصعب التصدي لها.
وفي بحث في الحالات التي تم التحدث عنها، يمكن أن نشير إلى أن الأسباب التي أدت إلى انتشار مثل هذه الظاهرة، غلاء المهور، والمبالغة في تكاليف الزواج، إضافة الى قلة الأجور، وانتشار البطالة، وغلاء المعيشة، وعدم توفر المسكن الملائم، والخلافات العائلية التي قد تمنع بعض حالات الزواج بين بعض العائلات، والفارق الطبقي، والتفاوت في المستوى الاجتماعي بين المرأة والرجل، وربما كذلك رغبة أحد الأزواج في الزواج من غير زوجته الأولى بالخفاء بحجة الحفاظ عليها وعلى أولاده والمحافظة على مشاعر الأبناء وتمكينه من رعايتهم، اختلاف الدين أو الطائفة. وظاهرة الزواج العرفي بين طلاب الجامعات تتمثل في كون الزواج العرفي لا يرتب على الزوج أي نوع من الالتزامات التي تترتب عليه في الزواج الرسمي، كما انه يستطيع أن يترك الزوجة في أي وقت يشاء على حسب الظرف الذي يعيشه.
فالمرأة في مجتمعنا هي دائماً كبش الفداء لكل مخالفة للقانون أو العادات والتقاليد، وهي الوحيدة التي تدفع ثمناً باهظاً وأليماً حد الجريمة ذاتها، بفعل الموروث والمنظومة التراثية والتقليدية للمجتمع، بما يحمله من ذكورية شبه تامة لجهة العلاقة بين الرجل والمرأة في الحياة.
ومثل هذا الزواج يحمّل المرأة الكثير من الأعباء والأخطار، لكونها في النهاية المتضررة شبه الوحيدة من تبعات هذا النوع من الزواج الذي لا تحكمه قوانين أو شرائع، وتكون نتائجه سلبية على المرأة بالدرجة الأولى، وعلى الأطفال في حال وجودهم وعدم تسجيلهم رسمياً، تجعل المجتمع يعيش حالة من الفوضى اللاأخلاقية، فيختل ميزان الأسرة ومفهومها، وتعشش الاضطرابات السلوكية والنفسية لدى الأبناء، ولدى الزوجين.
فإذا كانت الفتاة تقبل بهذه المغامرة فقط من أجل أن تتزوج، مضحية بأهم حق من حقوقها (الإشهار، الأمومة) فلماذا لا تضحي وتغامر مع شاب ذي إمكانات متواضعة إن كان لجهة المهر، أو لجهة متطلبات تأمين مسكن الزوجية، وتبني حياتها معه في النور متجنبة بذلك مآسي الزواج العرفي بكل تبعاته السلبية عليها وعلى أطفالها؟!
وهل سيحاول المجتمع، وأهل الفتاة إعادة النظر في المستوى الاجتماعي والاقتصادي للشاب المتقدم للزواج للحد من جر جيل الأبناء إلى المغامرة غير المحسوبة ؟
وهل سنبقى نحمّل الجهل مسؤولية تعنتنا، وعاداتنا وتقاليدنا التي تمارس علينا بشكل قصري كل أنواع العنف النفسي ؟!
فمتى تعي الفتاة ذاتها، وترفض استغلال الرجل والأعراف السلبية لأنوثتها وإنسانيتها تحت مسميات لا تتضمن سوى امتهان تلك الأنوثة والإنسانية؟
قد يرى البعض أن هذا النوع من الزواج هو امتداد لمعنى الحرية الشخصية، والحق في حرية تقرير المصير للفرد، لكن إن كان المجتمع والقانون معاً يرفضان هذا التفرد بالحرية أمام سلطتهما، فعلينا أن لا نضع أنفسنا في الخطأ في محاولة للتحدي وفرض وجهة النظر، لأن العواقب لن تكون في صالحنا طالما نحن غير قادرين على الضغط باتجاه تعديل القوانين، أو إعادة النظر فيها، وكذلك في نتائج هذه التعديلات إن هي حدثت، وفي فلسفة الحرية الشخصية ذاتها.